المؤلف:
حسام عواد
قسم الأوائل الجامعي

فكرت مليا ماذا أكتب في هذه البداية، ولم أستطع الوصول إلى جواب. قرأت مرة عبارة تقول "كل الذين نكتب من أجلهم لا يقرؤون" وقلت في نفسي من أجل من نكتب؟

أذكر أنني كنت في المرحلة الإعدادية عندما قررت أنني أريد أن أكون كاتبة من نوع ما، كنت عندها أقرأ لكاتب تحت اسم مستعار عمودا اسمه "فنجان قهوة" في جريدة محلية، وكنت مأخوذة بجودة الكتابة ورشاقتها فانطبعت في ذهني.

 

عشقي "للتعبير" هو ما كان يحركني، عشقي للكلمات ومن يحسنون استخدامها بعد أن أنهيت سنوات الثانوية العلمية واتجهت لدراسة الطب استجابة لآمال والدي، قلت يمكنني أن أستمر في الكتابة، ولا بأس أن أتخذ الطب مسارا لحياتي. 

قضيت في كلية الطب أسبوعين لم أفعل فيهما شيئا سوى الدراسة والبحلقة في الكتب والذهاب إلى الجامعة والأكل والنوم. كانت تلك مدة كافية لأتخذ قرارا بالتراجع عن قراري الأول وأقدم طلب تحويل إلى كلية الإعلام قسم الصحافة المطبوعة.

اصطحبني والدي إلى مكتب عميد كلية الطب الذي نظر إلي نظرة رب العائلة التي اكتشفت للتو أنهم رفعوا أسعار حفاضات الأطفال، بعد قراءة فحوى الطلب وسأل: تريدين التحويل إلى كلية الإعلام؟ فأجبته بالموافقة. وقّع على الطلب وهو يتعجب من حالة التخلف العقلي المؤقتة التي أصابتني لأقدم على فعل كهذا. وكان أبي معي يؤكد لي أنني أرتكب خطأ، والدليل هو ردة فعل العميد المستنكر لجريمتي النكراء.

 

في طريقي إلى عميد كلية الإعلام كنت كمن يسير على الهواء، أطير طيرانا وأحس بخفة شديدة اغتاظ لها والدي. دخلنا على العميد الجديد فما أن قرأ الطلب حتى وقع مُرحباً مهللا لأنه في العادة لا يستقبل طلبة من هذا "النوع". فاستبشر والدي وانتقل من حالة الكمد التي كان فيها إلى حالة الفخر بعد أن استمع إلى كلمات الرجل المشجعة والتي أبدى فيها عميق تأثره باختياري.

تركت كلية الإعلام بعد ثلاثة أشهر..

 

أين ذهبت ولماذا؟ ذهبت إلى كلية الآداب قسم اللغة العربية، لأسباب يصعب حصرها. ولكن الحقيقة التي لم أستطع تجاوزها هي أن عشقي "للتعبير" هو ما كان يحركني، عشقي للكلمات ومن يحسنون استخدامها. أمرّ الآن بتجربة الكتابة الأكاديمية في مجال البحث العلمي المتحجر المشاعر، ولا أحس بنفس اللهفة وإن كنت أحاول بغباء أن أطبع الكتابة الأكاديمية الجافة ببعض الأدب. ولأعترف بأنه أمر لا يروق للكثيرين، وينوبني بالكثير من التعديلات والتعليقات.

بعد خمس عشرة سنة مرت على تلك الجريدة وذلك الكاتب مجهول الهوية، مازلت متعلقة بالبدايات، ومازلت أتطلع إلى "فنجان القهوة" الخاص بي، الذي ربما يقرؤه أحدهم في يوم من الأيام فيقوده إلى بدايته، أو ربما تؤثر فيه كلمة ليوم أو يومين، أو ربما يختار بسبب رأي كتبته طريقا يجعل الحياة أجمل قليلا، أو يعتبر فنجان القهوة مع هذا الحديث الأسبوعي فسحة يرفه بها عن نفسه. في كل الأحوال سوف أكتب لكل هؤلاء الذين يقرؤون.

 

الكتابة الجادة لا تبدأ من الوعي كما أراها. تأتيك الفكرة كما ينقض عليك الإحساس بالجوع ليست كتابتي حالمة ولا جادة، ولا أعتقد أنها فكاهية ساخرة وإن استمتعت ببعض الكوميديا السوداء من وقت لآخر، أعتمد على مشاهداتي اليومية أو تأملاتي أو قراءاتي وأبحاثي حتى أكتب، غالبا ما تأتيني الفكرة هكذا دون تخطيط، ليس لأنني لا أعتبر الكتابة أمرا جادا، بل لأن الكتابة الجادة لا تبدأ من الوعي كما أراها، تأتيك الفكرة كما ينقض عليك الإحساس بالجوع بعد يوم طويل مرهق فيأكلك من الدّاخل، ولا يختفي حتى تتعهده بوجبة "محترمة".

يغلب على ظني أنني غالبا ما سأتحدث عن نماذج بشرية في صورة غَيْبة محمودة غير معروف من المقصود بها، وهو النوع المفضل لدينا، لأنه يخلو من المسؤولية الأخلاقية ويمكنّنا من الرحرحة في الحديث دون رقيب ولا حسيب، ثم نختمها "بأن أي تشابه بين الأحداث المذكورة والواقع هو من محض الصدفة".

كما أود أن أعتقد أن تأملاتي الشخصية وخبراتي اليومية قيمة للدرجة التي يجدر بي مشاركتها مع آخرين، من باب عموم المنفعة على اعتبار أنني أحمل أمانة نشر العلم الذي تلقيته من لحظات الضياع في الملكوت التي تنتابني من حين لآخر، فينتج عنها نوع من التجليات غير معروفة الاسم والتي أطلق عليها تجاوزا "تأملات" على سبيل احترام الذات وتضخيم الأنا.

أنظر إلى صفحتي فأجد أنني قاربت على الانتهاء وقد كنت أحمل همّ البداية، وهذه يا سادتي هي إحدى فوائد الثرثرة والاستسلام لتيارات الأفكار الجارفة، أعتقد بأنني أتكلم أكثر مما أفكر، أكلم نفسي والأشياء من حولي أكثر مما أكلم الناس، لعلي قرأت في مكان ما أن هذه علامة من علامات الجنون، لكن لا بأس، فقد قرأت أيضاً أن الجنون ملازم للعبقرية! أراهن أنه بالإمكان أن نجد بحثا علميا يدعم كل فكرة تبدو حمقاء نريد أن نسوقها للناس هذه الأيام.

سأحكي لكم عن بعض تلك الأفكار في المرات القادمة إن أردتم وستضحكون معي، وربما نبكي معا في أحيان أخرى، أو نتفكر معا في مشكلة اجتماعية عويصة من تلك التي تجتمع نساء الحارة لحلها، أو نتشاور في أمر ثقافي ونتظاهر بأننا نفهم ما يقوله المتثاقفون حول تمحور الذات المتبكسلة فوق كينونة النفس الملتاعة من أحادية النظرة الاختزالية. كل ذلك ممكن، ولكن الأكيد أنني سأكتب مادمتم تقرؤون.

اكتبوا لي كثيرا واتركوا لي شيئا أفكر فيه حتى نلتقي على الورق -أو الشاشات لمراعاة الدقة- في المرات القادمة، أؤمن بأن الكتابة فعل مشترك بين الكاتب والقارئ، فلا تفسحوا لي المجال لأمارس دكتاتورية التأليف المنفرد